حمدى أبو جليل
حمدى أبو جليل


محمد سليم شوشة يكتب : صاحب الصوت الجسور.. المغرد سردًا

أخبار الأدب

الجمعة، 23 يونيو 2023 - 12:09 م

يمثل الروائى القدير حمدى أبو جليل الذى رحل عن عالمنا بجسده منذ أيام قليلة حالة خاصة ومتفردة فى السرد الروائى العربي، صاحب تجربة لا شبيه لها فى الرواية العربية، فهو ذلك الجامح، صاحب الصوت الجسور الذى يعرف بدقة لماذا تُكتب الرواية. يبدو صاحب حساسية فريدة تجاه فن الرواية وكأنه عرف بدقة أو أحس بعمق لماذا تكتب الرواية أو ما أهمية وقيمة الخطاب الروائى فى حياتنا ولماذا يتحتم على عدد من الفنانين الموهوبين أن يكتبوها ، حيث تصبح الرواية لديه أغنية طويلة للإنسان، أغنية الإيمان العميق بمقدرة الإنسان ونفوذه فى الكون ، يؤمن بأن الرواية فن الأنثروبولوجيا الأول، فن مصاحبة الإنسان على مرّ الزمن لتدون تاريخه وتؤوله وتفسره وتتأمل الوجود وتسجل بلا ملل أهم تفاصيل الحياة ومحاورها المهمة ومراحلها المفصلية، تدون وتسجل وتتأمل وتتغنى وتؤنس وحدته وتضمد جراحه وتملأ ليله بالحكايات والطرافة والكوميديا والمتعة والأنس.

يبدو حمدى أبو جليل صوتا روائيا لا يقل عن كبار الروائيين فى العالم، عاشقا للحياة مؤمنا بالإنسان ومقدسا للفن ولكل صنعة إنسانية متقنة ، يعرف قيمة كل ما هو محلى ويعرف كيف ينتج الجمال المصفى منه، يعرف من أين تولد خصوصية الفن ومن أين تنبع بصمته التى لا شبيه لها ، إنه صاحب الموهبة الكبيرة التى امتصت الحياة وتشربت تفاصيلها الدقيقة وحوى الحكايات فى قلبه وعقله عن الجدات والأمهات والخالات ورجال القبيلة ومغاويرها ، إنه الفنان الذى شرب المكان حتى كأنه قد تمدد بجسده ووعيه وحضوره وإحساسه ليس بامتداد الفيوم وقراها ونجوعها ولكن بامتداد الكون كله من أوروبا إلى أمريكا اللاتينية وبعض دول أفريقيا وآسيا ومن قرى الريف المصرى إلى قرى الريف الفرنسى ومن أشجار مصر إلى أشجار إيطاليا وفلسطين ومن بحر يوسف إلى البحر المتوسط، فنجد أننا أمام روائيّ جم المدارك عظيم الإحساس بطبيعة هذا الكون وأمكنته ووصفها وكأنه رحم يجننا ويتعطف علينا بخيراته والإنسان فيه ما بين الجهامة والجهالة والعلم والحلم والذكاء والغباوة فى حراك ومد وجز لا انقطاع لهما.

يمزج حمدى أبو جليل عبر نسق جديد وخاص به بين الشرق والغرب، ليس على طريقة توفيق الحكيم الذى كتب عن أوروبا وبلادنا وقرانا فى الشرق ولكن على طريقة حمدى أبو جليل الخاصة التى يحاول فيها أن يرى غرائبية العالم ودهشته ومفاجآته وطرائفه التى تجعل الإنسان واحدا برغم اختلاف المكان أو الزمان أو الحضارات، يبدو الإنسان هو القيمة الثابتة دائما فى معادلاته الجمالية ، ينقب عن المفارقات والغرائب ومصادر الدهشة واللذة بكل أنماطها ومصادرها، بين الحسية والروحية والمادى والمعرفى المعنوي. لذلك الاستكشاف والشغف بالإنسان وجموح الجنس وعرفانيته ، فيعبر حمدى أبو جليل عن أنماط إنسانية خاصة به، ملؤها الدهشة والحركة والرغبة فى السفر والارتحال والمعرفة وملؤها الشغف بمتع الحياة وعلى رأس هذه المتع استكشاف الوجود والبحث عن المعرفة. كتب عن الإنسان الحر فى العصر الحديث سواء كان أوروبيا أو مصريا يحاول أن يقلد هذه الحرية أو يحاول التمرد على ميراث طويل من المرض والفقر والجهل والاستعمار أو نتاج الاستغلال. وكم يبدو الإنسان العادى لديه غرائبيا وكأنه كائن أسطورى يفوق كثيرا هذه الصفات الإنسانية العادية.

يبدو الإنسان لدى حمدى أبو جليل غريبا وغرائبيا وأسطوريا حتى ولو كان أوروبيا كما نجد ذلك فى شخصيات مراية وفيلسوف التلامس فى رواية يدى الحجرية مثلا، ولم تكن الغرائبية لدى الإنسان مقصورة فى نماذج البدو بما قد يكون فيهم من البطولة والجسارة أو الشهامة والكرم أو على نقيض ذلك من صفات الجهامة والغلظة وسوء الفهم والاتجاه للعنف والقتل. فعبر عن شعراء البدو كما عبر ورسم وجسد قاتليهم ومعدميهم من الفقراء والصعاليك ومن أكل القمل أجسادهم. وكم يبدو قادرا على صناعة الدهشة وجعل المتلقى يضحك ويبكى من الحالة الإنسانية الواحدة التى يصورها مثل شخصية كرومة أو عولة أو مفتاح ابن «الفلاحية» الذى استأسد على أخيه البدوى خالص الدم وهزمه فى معركة العمودية. وجسد ما هو قديم وأزلى متجدد لدى هؤلاء البشر الكثيرين الذين جسدهم وعبر عنهم وأخرج رغباتهم وغرائزهم إلى النور، جسد صراع الإنسان مع أخيه الإنسان على السلطة والمال والطعام وصراعه على المرأة وعصبيته للقبيلة وغيرها من الأمور الكثيرة التى تجعل القارئ فى أقصى درجات الدهشة وكأنه هذه النماذج متخيلة أو مصنوعة فى حين أنها يؤمن تماما بكونها ابنة الحياة وجزء أكيد من نسيج حضارى سابق.

يكتب حمدى أبو جليل الروايات وكأنه ينسج أغنية طويلة أو مجرودة بدوية أو ملحمة تاريخية عن قصص حب رجال ونساء من القبيلة، يكتب عن الخسارة والفقد والموت الذى مرت عليه مئات السنين وكأنه يعاينه ويستشعر مرارته وألمه، يكتب عمن رحلوا وكأنهم مازالوا أمامه يتحدثون معه. يقرب عصورا أصبحت بيننا وبينها فجوة، وهنا تتأكد قوة سرده ومقدرته على أن يستنهض العوالم الفانية. يرمم تاريخ القبيلة، بل قل يرمم تاريخ المكان وعصوره ومراحله وقيامه وانهياره ومكاسبه وخساراته وحبه وكرهه، فيستنهضه من قبور العدم ويمنح القراء الأمل فى قيامة العالم ووحدته فى لحظة ما مستقبلة ومأمولة.

يكتب عن قصور بادت وسرايات تعاقبت عليها الأفراح والأتراح والثأر والعداوات ويكتب عن خيم وأماكن أثرية وعن ترع وطرق ومدكات وخصوص ويكتب عن الفقر والجوع والشبع والعرى والثراء والوجاهة ويكتب عن قلة الحيلة والسرقة والصعلكة كما يكتب عن الفلاسفة والمفكرين والثوار فرنسيين ومصريين كما يكتب عن مكائد تاريخية ومكائد طفولية ومصائر عابرة، يكتب عن الكونى الذى يشغل الجميع ويمزجه بما يبدو مهملا أو هملا من البشر الضعفاء والمغبونين.

وإذا كان جوهر اختلافه وتميز تجربته نابعا بدرجة كبيرة من طبيعة عوالمه وتفاصيلها لحياة العربان البدو الرحل وما مروا به من مراحل الهجرة الصراع والاستيطان والترويض والاستقرار والامتزاج التدريجى بالدولة والأنظمة، فإن جزءا كبيرا من تميز تجربته كذلك ليس فقط من غرابة هذه العوالم وطرافتها وخصوصية تفاصيلها، بل هى من تركيبته السردية ونفسه السردى الخاص وقدرته على أن يترك نفسه لأمواج السرد تتهادى به فيبدو راقصا أو عازما أو ناسجا للأشعار ومدونا للأحلام ، هذه الكتابة الساحرة المضبوطة بالميزان فى تداخل خطلتها وتماسكها وانضباطها بين اليقظة والصحو. 

 

وحمدى أبو جليل يبدو كما فى رواياته هو ذلك البدوى العاشق لمصر الفرعونية، المعتز بمصريته القديمة إلى أقصى درجات الاعتزاز والانتماء، مؤمنا بالدولة كما كان العمد وهل تلك الأعوام القديمة يؤمنون بقوة الدولة وقيمتها وأهميتها حتى وهم يحاربونها فى بعض الأحيان، فكأنه خلاصة هؤلاء البشر الأذكياء الذين عبر عنهم فى رواياته. يكتب عن الخيمة ويكتب عن الهرم بما فى جوهر الاثنين من الإشارة إلى قدرة الإنسان وبما فى جوهر الاثنين من دلالة على الحضارة أو على حب الحياة وإرادتها.

وفى تقديرى أن قيمة إبداعه فى أنه يمثل متحفا إنسانيا ثريا حافلا بكل آثار الإنسان وتراثه المادى وغير المادي، حيث دون لغة البدو وشعرهم ونمط حياتهم ومعيشتهم وتاريخهم وأسماء رجالهم ونسائهم وحركتهم التاريخية ولكنه لم يكن مجرد سجل بالمعنى الحرفي، بل هو فى النهاية فن سردى فائق الجمال وحافل بالحيوية والنبض الإنسانى ويتأسس على تكوين وبناء لهما كل التنظيم والسمت الجمالى فائق الدقة بشكل خفي، فهو حرفى يكتب كما لو كان متحررا من كل قيود الفن أو قوانينه الراسخة مسبقا فى النوع الأدبى الذى يكتبه، منظم ومتمرد فى الوقت نفسه، وفوضوى ومرتب وفى أقصى درجات التحرر مع أقصى درجات الانضباط فى الآن ذاته، يراوح بين السرعة والبطء وبين الإيقاع السريع والإيقاع البطيء. كما يراوح بين الفردى والعام أو الجماعي، ويراوح بين الذاتى والموضوعي، ويمزج بينهما بميزان منضبط فلا يستولى عليه هذا دون ذاك. يراوح بين التجريب والالتزام بتقاليد فن الرواية.

وهو واحد من أبرز التجريبيين فى السرد الروائى المعاصر وأكثرهم جسارة وله تركيبته الخاصة التى لا يشبهه فيها أحد، فهو الذى يمزج الرواية بالسيرة الذاتية وفى الوقت ذاته يمزجها بالتاريخ ويزحزح الحدود الفاصلة بينها وبين التاريخ والفلسفة وكتب الرحلات والتأملات وكتب التسجيل والتدوين للتراث وحفظ الأنثروبولوجيا. يكتب فى مرة بنبرة المؤرخ ومرة بنبرة شاعر الربابة والموال، ومرة أخرى يكتب بنبرة فيلسوف متأمل فى الخلق والكون ومرة بنبرة الباحث، وهذا ليس لأنه كان مازال يبحث عن هويته أو شكله ونمطه الخاص، بل على العكس، كان يدرك أن هذه التركيبة وهذه المغايرات فى النبرة والنمط السردى هى تركيبته وهى سر كسر الرتابة والتجدد وكان ذلك نابعا من إدراكه لقدرة الخطاب الروائى على المرونة والقابلية لأن يصهر أشكالا مختلفة من الحكاية وأساليب عديدة من السرد. يبدأ مرة بالقصيدة البدوية التى تبدو مدحا للرواية على طريقة سرفانتس ومرة يبدأ بقصيدة نثر ومرة بمقطع مضحك أو موقف فكاهى فيه سخرية من الذات أو سخرية من الإنسان الفيومى الذى يحبه أو قل يعشقه ويراه خلاصة آلاف السنين وأثرا لطبقات حضارية عديدة.

يبدو حمدى أبو جليل فى تجريبه الروائى باحثا ومنقبا عن الجذور والأصول البعيدة والمفقودة أحيانا، يبحث وينقب عن دوافع الإنسان نحو التغير وعوامل تشكيله عبر الزمن، لا يرصد الظاهر من الحياة بقدر ما ينقب عما وراءها، يفتش عن جذر قرية أو نجع ويلضم فى تاريخ واحد عددا من النجوع والقرى ويربط بين الجغرافيا وحركة البشر وأحسابهم وأنسابهم وصراعاتهم وزيجاتهم وزحفهم وهجرتهم، فتتشكل الجغرافيا الحديثة خريطة خفية وراءها من الأسرار ما يستحق التنقيب والبحث والسرد وما يستولى على دهشة المتلقى ويفجّر أسئلته ويطلق العنان لجموحه المعرفي.

يجرب فى الصوت والراوى ويستخدم تقنية محادثة المروى عليه أو كسر الإيهام كما يجرب فى تمديد قدرة الرواية على احتواء الشعر أو إن شئت قلت تمديد قدرة الرواية على التماهى التام مع القصيدة وقدرتها على التماهى مع حكاية الجدات والأمهات وقصص السمر وقعدات العرب فى منادرهم وأحواشهم وأحراشهم. تبدو الرواية لديه بسماتها وصفاتها الحديثة والحداثية غير بعيدة عن السيرة الشعبية أو التغريبات، وهذا هو قمة التجريب الناعم الذى قد لا يلاحظه الناقد بسهولة، فهو يكتب السر الحداثى بتداخل وتقاطع ناعم مع هذه الألوان من الفنون الشعبية، وهو الأمر ذاته أو الموقف الفنى نفسه الذى يتخذه من اللغة، حين يرى الرواية أولى بالعامية أو بالعاميات المختلفة وجدير بها ألا تترفع على لغة الناس ولغة حياتهم اليومية بنبضها وثرائها وتحويراتها، ذلك لأن فى طاقات هذه اللغة العامية أو اللهجات الشفاهية ما يعبر عن مشاعر البشر أو يجسد خلجاتهم ونوازعهم ونبضهم ويجسد المواقف التاريخية وحالات الغضب والفرح وحالات الجنون والطيش والعشق أو حالات اليأس والصدمة والاضمحلال والموت أو تذوق طعم النهاية قبل أوانها. لم تكن رواياته متحفا للهجات فقط، والإقرار بهذا فقط خطأ وتقصير لأن حضور اللهجات والعاميات فى سرده وتشابكها مع الفصحى أمر يزيد كثيرا عن مجرد التسجيل والحفظ إلى أبعاد فنية أخرى أكثر أهمية، فهذا المزج والتشابك لها حساسية خاصة وهذا التحول والتداخل بينهما كان له أيضا ميزانه الخاص ونسبه المضبوطة، فهو لا يجعل اللهجة أو العامية تغلب فيفقد الخطاب الروائى عالميته أو ذيوعه الشامل ويغرق تماما فى المحلية التى تقتله، بالضبط كما لم يكن يجعل الخطاب الروائى محصورا فى الفصحى ومترفعا عن العاميات واللهجات بما يجعله يفقد كل هذه الجماليات والميزات الكامنة فى رصدها وتسجيلها بنبضها وحيويتها وخصوصيتها.

وأتصور أن مساحة التجريب لديه تحتاج بذاتها بحثا خاصا، إذ هو واحد من المجربين عن وعى وعن دوافع حقيقية وليس لمجرد الرغبة المطلقة فى الاختلاف أو التجديد وكسر النمط السائد، بل كان مجربا لأن الخامة التى يعمل عليها تحتاج إلى ذلك بل تحتم عليه هذا، كان مجربا لطبيعة عوالمه السردية ولكثافة هذه العوالم وتراميها وغناها وتداخل عناصرها. فهو العاشق للكتب والناقل للشفاهية والحريص عليها، الغارق فى السرد وهو عاشق للشعر وللشعراء وبخاصة شعراء البدو الذين عشقوا ولم ينالوا شيئا لأنهم فى غالبتيهم من الفقراء الصعاليك الذين أقعدهم الفقر عن حاجاتهم وحال بنيهم وبين أحلامهم فعاشوها فى قصائدهم واقتاتوا على خيالهم، وقد كان حمدى أبو جليل منحازا لهؤلاء الشعراء نصيرا لهم ولكن عبر مدونة السرد وعبر الفن الأحدث الذى صار صاحب الغلبة والنفوذ فى الحياة الأدبية وتفوق على الشعر، لكن الطريف أن حمدى أبو جليل المنعكسة صورته بطلا للروايات أحيانا كان فى هذه الروايات صعلوكا يعيش على شاكلة هؤلاء الشعراء الذين أراد أن ينتصر لهم.

الخلاصة أنه نسيج خاص وتركيبة مختلفة تماما وصوت متفرد وأسرار فنه لم يكشف عنها بعد وربما تلك ليست أزمته وحده من الروائيين والمبدعين الكبار الذين لم يأخذوا حقهم لضعف فى النقد لدينا، ولهذا فهو سيعيش طويلا وسيبقى خالدا بفنه الروائى المتميز الذى أتوقع أن يقوم عليه اشتغال نقدى ممتد وكثيف يستكشف جمالياته وخصوصيته وعناصره ومركباته وبخاصة المركبات الأنثروبولوجيا وحفريات الثقافة والتراث الشعبى وغيرها من العناصر التى شكلت هويته الأدبية ومنحته مذاقه الخاص ليس بين أبناء جيله فقط ولكن بين الروائيين المصريين والعرب. 

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة